فصل: تفسير الآيات (191- 192):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (190):

{وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقاتِلُوا} هذه الآية أول آية نزلت في الامر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} [المزمل: 10] وقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وما كان مثله مما نزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} قاله الربيع بن أنس وغيره. وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]. والأول أكثر، وأن آية الاذن إنما نزلت في القتال عامة لمن فاتل ولمن لم يقاتل من المشركين، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة- والحديبية اسم بئر، فسمى ذلك الموضع باسم تلك البئر- فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة. فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار. فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فنسخت هذه الآية، قاله جماعة من العلماء.
وقال ابن زيد والربيع: نسخها {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] فأمر بالقتال لجميع الكفار.
وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: هي محكمة، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، على ما يأتي بيانه. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، رواه الأئمة. وأما النظر فإن فاعل لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والاجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء أذائه، أخرجه مالك وغيره، وللعلماء فيهم صور ست: الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ}، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]. وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الامداد بالأموال، ومنها التحريص على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل.
الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج.
وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي: والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله: فذرهم وما حبسوا أنفسهم له.
الرابعة: الزمنى. قال سحنون: يقتلون.
وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم أذائه قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما- مثل قول الجماعة. والثاني- يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الامام فيه مخيرا بين خمسة أشياء: القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية.
السادسة: العسفاء، وهم الاجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون.
وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والاجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية.
والأول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع: «الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا».
وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حراثا، ذكره ابن المنذر.
والثانية: روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم. والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه. ألا تراه كيف بينها في سورة براءة بقوله: {قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم».
وقيل: غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لأن نزوله من أشراط الساعة.
والثالثة: قوله تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا} قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق.
وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة.
وقيل: {لا تَعْتَدُوا} أي لا تقاتلوا من لم يقاتل. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار، والله أعلم.

.تفسير الآيات (191- 192):

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ثَقِفْتُمُوهُمْ} يقال: ثقف يثقف ثقفا وثقفا، ورجل ثقف لقف: إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور.
وفي هذا دليل على قتل الأسير، وسيأتي بيان هذا في الأنفال إن شاء الله تعالى. {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي مكة. قال الطبري: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش.
الثانية: قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل. قال مجاهد: أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة.
وقال غيره: أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به. وهذا دليل على أن الآية نزلت في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله واقد بن عبد الله التميمي في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، حسب ما هو مذكور في سرية عبد الله بن جحش، على ما يأتي بيانه، قاله الطبري وغيره.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ} الآية. للعلماء في هذه الآية قولان: أحدهما- أنها منسوخة، والثاني- أنها محكمة. قال مجاهد: الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل، وبه أقال طاوس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
وفي الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة».
وقال قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وقال مقاتل: نسخها قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ثم نسخ هذا قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم.
ومما احتجوا به أن براءة نزلت بعد سورة البقرة بسنتين، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة وعليه المغفر، فقيل: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه».
وقال ابن خويز منداد: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} منسوخة، لأن الإجماع قد تقرر بأن عدلوا لو استولى على مكة وقال: لاقاتلكم، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال، فمكة وغيرها من البلاد سواء. وإنما قيل فيها: هي حرام تعظيما لها، ألا ترى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالد بن الوليد يوم الفتح وقال: «احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا» حتى جاء العباس فقال: يا رسول الله، ذهبت قريش، فلا قريش بعد اليوم. ألا ترى أنه قال في تعظيمها: «ولا يلتقط لقطتها إلا منشد» واللقطة بها وبغيرها سواء. ويجوز أن تكون منسوخة بقوله: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]. قال ابن العربي: حضرت في بيت المقدس- طهره الله- بمدرسة أبي عقبة الحنفي، والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء، فقال القاضي الزنجاني: من السيد؟ فقال: رجل سلبه الشطار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا: سلوه- على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم- ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل. فسئل عن الدليل، فقال قوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ} قرئ {ولا تقتلوهم}، ولا تُقاتِلُوهُمْ فإن قرئ {ولا تقتلوهم} فالمسألة نص، وإن قرئ {وَلا تُقاتِلُوهُمْ} فهو تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل. فاعترض عليه القاضي منتصرا للشافعي ومالك، وإن لم ير مذهبهما، على العادة، فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن، والتي احتججت بها خاصة، ولا يجوز لاحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص. فبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام. قال ابن العربي: فإن لجأ إليه كافر فلا سبيل إليه، لنص الآية والسنة الثابتة بالنهي عن القتال فيه. وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيقتل بنص القرآن.
قلت: وأما ما احتجوا به من قتل ابن خطل وأصحابه فلا حجة فيه، فإن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل فيها القتال. فثبت وصح أن القول الأول أصح، والله أعلم.
الرابعة: قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن الباغي على الامام بخلاف الكافر، فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال، والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع. ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح. على ما يأتي بيانه من أحكام الباغين في الحجرات إن شاء الله تعالى.
الخامسة: قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا} أي عن قتالكم بالايمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم، ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم، نظيره قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وسيأتي.

.تفسير الآية رقم (193):

{وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ} أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، على من رآها ناسخة. ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: {فَإِنْ قاتَلُوكُمْ} والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار. دليل ذلك قوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}، وقال عليه السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله». فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر، لأنه قال: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر. قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم: الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين. واصل الفتنة: الاختبار والامتحان، مأخوذ من فتنت الفضة إذا أدخلتها في النار لتميز رديئها من جيدها. وسيأتي بيان محاملها إن شاء الله تعالى.
الثانية: قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا} أي عن الكفر، إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل، أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب، على ما يأتي بيانه في براءة وإلا قوتلوا وهم الظالمون عدوان إلا عليهم. وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا، كقوله: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 40]. والظالمون هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر: من بقي على كفر وفتنة.